حياة

دراسة جديدة: النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وراثيًا

هل الاكتئاب مسألة بيولوجية أم اجتماعية؟

سؤال ظلّ مطروحًا لعقود طويلة في الأوساط الطبية والنفسية، لكن دراسة حديثة قادمة من أستراليا أعادت إشعال الجدل، بعد أن كشفت أن النساء قد يحملن خطرًا جينيًا مضاعفًا للإصابة بالاكتئاب مقارنة بالرجال.

اكتشاف علمي ضخم

الدراسة، التي نُشرت في مجلة Nature Communications العلمية، وصفت بأنها أكبر تحليل جيني حتى الآن يركز على الفروق بين الجنسين في الاكتئاب الشديد.

قاد البحث فريق من معهد كويمر بيرغهوفر للأبحاث الطبية (QIMR Berghofer) في أستراليا.

وتضمّن تحليلًا لبيانات الحمض النووي لأكثر من نصف مليون شخص من خمس مجموعات دولية، في أستراليا، وهولندا، والولايات المتحدة، واثنتين من المملكة المتحدة.

النتيجة كانت لافتة، اكتشف العلماء 16 متغيرًا جينيًا مرتبطًا بالاكتئاب لدى النساء، مقابل 8 متغيرات فقط لدى الرجال.

ورغم أن جزءًا كبيرًا من هذه المتغيرات كان مشتركًا بين الجنسين، فإن الباحثين لاحظوا عبئًا جينيًا أكبر لدى النساء، ما قد يعني أن بعض الجينات تلعب دورًا خاصًا في زيادة قابلية الإناث للإصابة بالاكتئاب.

لماذا النساء أكثر عرضة؟

تقول الدكتورة بريتاني ميتشل، الباحثة في مختبر علم الأوبئة الجينية بالمعهد: “نعرف منذ زمن أن النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بمقدار الضعف مقارنة بالرجال، لكن ما لم يكن واضحًا هو السبب البيولوجي وراء ذلك. هذه الدراسة تفتح الباب لتفسير جديد يعتمد على الجينات”.

لكن الصورة ليست بهذه البساطة. فالباحثون يشيرون أيضًا إلى أن العوامل الاجتماعية والنفسية والبيئية تلعب دورًا لا يقل أهمية.

فعلى سبيل المثال، النساء أكثر عرضة للتعرض للعنف الأسري أو التحرش الجنسي، وهي تجارب قد تترك آثارًا نفسية طويلة المدى.

كما أن الضغوط الناتجة عن الأدوار الاجتماعية، مثل التوفيق بين العمل والأسرة أو الاضطرار لتحمّل مسؤوليات رعاية الآخرين، تزيد من مستويات التوتر المستمر، وهو أحد أبرز المحفزات للاكتئاب.

وفي المقابل، هناك أيضًا ما يُعرف بـ“التحيز في التشخيص”، إذ يُرجَّح أن الرجال أقل ميلًا لطلب المساعدة أو الإفصاح عن مشاعرهم، ما يؤدي إلى تحت تشخيص حالاتهم الحقيقية من الاكتئاب.

الاكتئاب ليس متشابهًا بين الجنسين

واحدة من النتائج المثيرة التي توصلت إليها الدراسة هي أن الاكتئاب لا يظهر بالطريقة نفسها عند النساء والرجال.

فقد لاحظ العلماء أن النساء المصابات بالاكتئاب غالبًا ما يعانين من أعراض أيضية (Metabolic Symptoms) مثل تغيرات الوزن أو اضطراب الطاقة أو الشهية.

بينما تميل أعراض الرجال إلى الظهور في شكل الانسحاب الاجتماعي أو السلوكيات الاندفاعية.

تقول الدكتورة جودي توماس، الباحثة الرئيسية في الدراسة “وجدنا ارتباطًا جينيًا أقوى بين الاكتئاب والصفات الأيضية لدى النساء، مثل مؤشر كتلة الجسم ومتلازمة الأيض”.

وأضافت “هذا قد يفسر لماذا تميل النساء إلى اكتساب الوزن أو فقدانه بشكل ملحوظ أثناء نوبات الاكتئاب”.

كيف أُجريت الدراسة؟

قام الفريق العلمي بتحليل بيانات الحمض النووي لنحو 130 ألف امرأة و65 ألف رجل يعانون من الاكتئاب الشديد، مقارنةً بـ 160 ألف امرأة و132 ألف رجل لا يعانون من المرض.

ومن خلال مقارنة هذه العينات، تمكن الباحثون من تحديد المتغيرات الجينية التي تتكرر لدى المصابين بالاكتئاب، مع التركيز على الفروق بين الجنسين.

وللتأكد من أن النتائج ليست متأثرة بعدد المشاركين المختلف بين الرجال والنساء، أجرى الفريق اختبارات إضافية إحصائية لتثبيت صحة النتائج.

رغم قوة الأرقام، يعترف الباحثون بأن هناك قيودًا مهمة، فالعينة اقتصرت على أشخاص من أصول أوروبية، ما يجعل من الصعب تعميم النتائج على مجموعات سكانية أخرى مثل الآسيويين أو الأفارقة أو العرب.

لكن الفريق يأمل أن تُجرى دراسات مشابهة مستقبلًا على عينات أكثر تنوعًا من الناحية العرقية والجغرافية.

البروفيسور فيليب ميتشل، من كلية الطب السريري بجامعة نيو ساوث ويلز، علّق على الدراسة قائلًا “منذ عقود، كنا نعرف أن الاكتئاب أكثر شيوعًا بين النساء بمعدل يصل إلى ثلاثة أضعاف، واعتقدنا أن السبب اجتماعي أو نفسي، لكن هذه الدراسة تغيّر المعادلة، إذ تقدم أدلة قوية على أن الفروق قد تكون جينية بالأساس”.

ويضيف: “هذا لا يعني أن البيئة ليست مهمة، لكنها تشير إلى أن البيولوجيا تلعب دورًا أكبر مما كنا نظن. وربما يفتح هذا الباب أمام علاجات مختلفة للنساء والرجال في المستقبل، وفق الفروق الجينية بينهما”.

تكمن أهمية هذه النتائج في أنها تُعيد تعريف الطريقة التي ينظر بها الطب النفسي إلى الاكتئاب، لا باعتباره اضطرابًا نفسيًا ناتجًا عن ضغوط الحياة فقط، بل كحالة تتداخل فيها الجينات والهرمونات والعوامل الاجتماعية في آن واحد.

نحو فهم جديد للاكتئاب

فإذا كانت النساء يحملن جينات أكثر ارتباطًا بالاكتئاب، فهذا لا يعني أن مصيرهن محتوم، بل إن الوعي بهذه الحقيقة قد يغيّر مسار الوقاية والعلاج.

يمكن مثلًا أن تُستخدم هذه المعرفة في تطوير اختبارات جينية للتنبؤ بمخاطر الإصابة بالاكتئاب لدى النساء المعرضات له، أو في تصميم أدوية موجهة خصيصًا للنساء تراعي الفروق البيولوجية في تركيب الجسد والاستجابة للهرمونات.

بعيدًا عن الأبحاث والرسوم البيانية، تبقى هذه النتائج تذكيرًا بأن الاكتئاب لا يفرّق بين الأشخاص، لكنه قد يظهر في صور مختلفة لديهم.

فالمرأة التي تعاني من تعب مزمن أو فقدان للطاقة أو تغيّر في الشهية، قد تكون في الحقيقة تمر بحالة اكتئاب لم تُشخَّص بعد.

وكذلك الرجل الذي يبدو منطويًا أو سريع الغضب أو يهرب إلى العمل الزائد، قد يكون يعاني بدوره من نفس الاضطراب ولكن بطريقة مختلفة.

إن فهم الفروق الجينية ليس فقط خطوة علمية، بل هو أيضًا خطوة إنسانية نحو التعامل مع الاكتئاب بقدر أكبر من الدقة والتعاطف.

هل نقترب من علاج مخصص لكل جنس؟

يشير الباحثون إلى أن الخطوة التالية ستكون دراسة تأثير هذه المتغيرات الجينية على استجابة الرجال والنساء للعلاج.

فربما تكون هناك أدوية تعمل بشكل أفضل لدى النساء دون الرجال، أو العكس، بحسب التفاعل الجيني والهرموني في كل حالة.

تقول الدكتورة ميتشل: “نأمل أن تساهم نتائجنا في الوصول إلى علاج أكثر دقة وعدالة، لا يعتمد على افتراض أن الاكتئاب واحد لدى الجميع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى