بزنس

GenZ يتمرد على شعار "أكل العيش فوق كل شيء"

في إحدى شركات العلاقات العامة، كان شعار الفريق الداخلي يعلّق على الجدار بخط عريض «إنها العلاقات العامة، وليست غرفة الطوارئ».

الجملة تبدو بسيطة، لكنها تختصر ثورة فكرية كاملة يقودها جيل جديد من الموظفين، GenZ، الذي قرر أن الحياة ليست سباقًا دائمًا مع الأزمات، وأن العمل لا يجب أن يكون حالة طوارئ مستمرة.

من ضغط العمل إلى طفح جلدي

لورين جايلز، شابة أمريكية تبلغ من العمر 26 عامًا، دخلت سوق العمل في عام 2022 بحماس، مثل كثيرين من جيلها. كانت تظن أن الانشغال الدائم هو علامة النجاح، وأن الاستجابة السريعة لكل طلب من المدير دليل التزام.

لكن بعد شهور قليلة من القلق والإرهاق، وجدت نفسها أمام المرآة تلاحظ طفحًا جلديًا سببه التوتر، وفق واشنطن بوست.

تقول لورين: «وقتها أدركت أن هذا ليس طبيعيًا… وأنه لا يستحق أن أضحي بصحتي لأجل عمل يمكن تغييره في لحظة».

جيل Z، المولود تقريبًا بين عامي 1997 و2012، يدخل سوق العمل في عالم مختلف عن أي وقت مضى. معظمهم بدأوا حياتهم المهنية خلال جائحة كورونا، وسط اضطراب اقتصادي واسع، وقلق حول الوظائف، وتغيرات مستمرة في بيئة العمل الرقمية.

بالنسبة لهم، العمل من المنزل ليس رفاهية، بل واقع نشأوا فيه. لذلك، مفهوم “الطوارئ في المكتب” يبدو لهم شيئًا مصطنعًا أكثر منه ضروريًا.

وداعًا لشعار “العمل فوق كل شيء”

المدربة المهنية فيبي جافين ترى أن هذه النظرة ليست تمردًا فارغًا من جيل مدلّل كما يصوّر البعض، بل وعي جديد قائم على العدالة والتوازن.

وتقول: «الأجيال تحت الأربعين باتت ترفض فكرة أن الولاء للشركة يجب أن يأتي على حساب النفس. لم يعد هناك ضمان بأن من يعمل أكثر سيكافأ أكثر، فلماذا أستنزف نفسي من أجل نظام لا يردّ الجميل؟».

جيل الألفية السابقة عاش زمنًا كانت فيه “الترقية” أو “زيادة الراتب” نتيجة مباشرة للتفاني والولاء. أما جيل Z، فيرى أن الولاء من طرف واحد بلا مقابل هو استغلال، وليس التزامًا.

لذا، حين يطلب مدير في التسويق من أحدهم أن ينجز عرضًا تقديميًا في منتصف الليل، يكون الرد أكثر هدوءًا: “نعم، لكن غدًا صباحًا”.

لا تسويق في غرفة الطوارئ

العبارات الساخرة التي انتشرت على مواقع التواصل مثل “It’s PR, not the ER” (إنها العلاقات العامة، وليست غرفة الطوارئ)، أو “نحن لا ننقذ الأرواح، نحن نحفظ ملفات PDF” أصبحت شعارات لجيل جديد يعيد تعريف معنى “الاستعجال” في بيئة العمل.

كترينا بيرش، أستاذة علم النفس التنظيمي في جامعة كنتاكي الغربية، تفسّر ذلك التحول بأنه نتيجة مباشرة للصدمة التي أحدثها وباء كورونا.

تقول: «تعوّدنا في أميركا على تمجيد الانشغال وكأنه وسام شرف، لكن الجائحة أجبرت الناس على مراجعة أنفسهم. أدرك كثيرون أن “الانشغال الدائم” ليس فخرًا، بل خطر».

بعد الجائحة: أولويات جديدة

في نيويورك، كانت الصحفية إريكا ماريسون من بين من عاشوا تلك المراجعة. فقدت أحد أحبائها قبل الجائحة مباشرة، ثم عاشت حزنًا جماعيًا بسبب الوباء، لتصل إلى قناعة حاسمة: «لا شيء في عملي عاجل بالقدر الذي كنا نتخيله. أنا أحب عملي، لكن الحياة أثمن».

إريكا تعمل في مجال الموضة ونمط الحياة، صناعة تتغذى على السرعة والإبهار، لكنها تعلّمت أن إنتاج الأفكار لا يحتاج صراخًا أو استعجالًا، بل صفاء ذهن.

وتضيف بابتسامة: «رأيت ميمز كثيرة تقول “إنها العلاقات العامة وليست الطوارئ”، وكنت أضحك، لكن مع الوقت أدركت عمقها. الهدوء لا يقلل الإنتاجية، بل يزيدها».

من التوتر إلى التواصل

بالنسبة لكثير من شباب اليوم، التغيير لا يعني الكسل أو التراخي، بل إعادة تنظيم العلاقة بين الجهد والنتيجة.

تشانيز ليدي، 26 عامًا، بدأت عملها في التسويق والإعلانات وهي تحاول إرضاء الجميع. كل طلب كان يبدو كأنه مسألة حياة أو موت. لكنها اكتشفت أن ذلك لا يؤدي إلى ترقية، ولا حتى إلى تقدير إضافي.

تقول: «تعلمت أن أتكلم بصراحة مع مديري. حين يطلب مهمة عاجلة، نراجع سويًا أولوياتي، ونقرر ما يمكن تأجيله. المفاجأة أن العمل أصبح أكثر سلاسة».

المدربة جافين تشرح أن التواصل هو السلاح الأقوى ضد ثقافة الطوارئ الزائفة. فبدلًا من قول «هذا ليس عملي»، يمكن قول «هذا ما أفهمه من الطلب، وهذا ما سيكلّفني، هل ما زلت تريده بهذه الطريقة؟»، أسلوب يحافظ على العلاقات المهنية، ويضع حدودًا واضحة في الوقت نفسه.

ليس كل الموظفين قادرين على الرفض

ورغم أن هذه الثورة الهادئة تنتشر، إلا أن القدرة على “الرفض بأمان” ليست متاحة للجميع.

العاملون في الوظائف منخفضة الأجر أو غير المستقرة لا يستطيعون دائمًا التحدث بصراحة عن الحدود أو التوازن.

كما تواجه الأقليات العرقية أو أصحاب الإعاقات تحديات إضافية، إذ تُفرض عليهم أحيانًا معايير أداء غير عادلة، تجعلهم أقل قدرة على قول “لا”.

نيا ويست-بي، المديرة التنفيذية للمبادرة الوطنية لسياسات الشباب التحويلية، تقول إن جيل الشباب الجديد يجلب معه نظرة متأثرة بعدالة ذوي الإعاقة، ترى أن المشكلة ليست في الكسل، بل في ثقافة تربط بين “قيمة الإنسان” و“مقدار عمله”.

تضيف: «نحن نخلط بين الإنتاجية الظاهرة والأداء الحقيقي، وبين الوجود في المكتب والإنجاز الفعلي».

إعادة تعريف النجاح

اليوم، أصبح كثير من الشباب يطرحون أسئلة لم تكن مطروحة من قبل:

هل العمل حقًا يستحق التضحية بالنوم أو بالعلاقات الاجتماعية؟

هل السرعة دليل الكفاءة؟

هل يمكن النجاح من دون احتراق؟

الإجابة التي يقدمها جيل Z هي “نعم، ولكن بشروط جديدة”.

النجاح بالنسبة لهم لا يُقاس بعدد الساعات أمام الشاشة، بل بنوعية الحياة بعد انتهاء العمل.

وإذا حدثت “أزمة” يوم الأحد، فالسؤال المنطقي هو: «هل سأحصل على يوم إجازة الاثنين؟»

إنهم لا يرفضون الالتزام، بل يطالبون بالاتساق.

لورين جايلز تختم حديثها بجملة قالتها لها والدتها، وأصبحت شعارًا مؤلمًا وصادقًا في الوقت نفسه: «في نهاية اليوم، لو متّ، سيعلنون عن وظيفتك في اليوم التالي، وسيتحدثون فقط عن لطفك».

ثم تضيف: «افعل ما بوسعك. افعله بإتقان. لكن تذكّر أنه مجرد عمل».

الظاهرة تمتد إلى عالمنا العربي أيضًا

قد يبدو هذا التحول الثقافي وكأنه ظاهرة غربية خالصة، لكنه بدأ يظهر بوضوح في منطقتنا العربية أيضًا، خصوصًا بين الشباب العاملين في مجالات التقنية، التسويق، والإعلام.

فبعد موجة العمل عن بُعد التي رافقت جائحة كورونا، صار كثير من الموظفين العرب أكثر وعيًا بحقوقهم وبفكرة “التوازن بين الحياة والعمل”.

يقول أحد المتخصصين في الموارد البشرية في دبي: «جيل الشباب اليوم يرفض فكرة أن المدير يراسله في منتصف الليل وكأنها حالة طارئة، أصبحوا يقولون بصراحة: هذا وقتي الشخصي».

وفي مصر والسعودية والأردن، بدأنا نرى نقاشات مشابهة على السوشيال ميديا، خاصة من موظفين في الشركات الناشئة أو وكالات الإعلان، يعبّرون عن رفضهم لثقافة “الاستنفار الدائم”، ويطالبون ببيئة عمل أكثر إنسانية.

وربما يكون ذلك علامة على نضوج سوق العمل العربي، لا تمرده. فجيل اليوم لم يعد يرى في الصراخ أو العمل حتى الإنهاك دليل جدية، بل يرى أن الإنتاج الحقيقي يبدأ حين يكون العقل مرتاحًا والجسد في سلام.

وكما تقول إحدى الشابات العاملات في مجال البرمجة في القاهرة: «إحنا مش في غرفة عمليات، إحنا بنكتب كود. لو الكود اتأخر ساعة مش نهاية العالم، بس لو صحتنا راحت خلاص مفيش كود هيصلحها».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى