حياة

كيف تؤثر ساعتين من التمارين أسبوعيًا على آلام المفاصل؟

في أحد أحياء مدينة مانشستر البريطانية، كانت ليندا المرأة الخمسينية التي تعمل في متجر صغير تجرّ قدميها كل صباح بصعوبة.

كانت تعاني من آلام مزمنة في الركبة منذ سنوات، جعلت كل خطوة معركة صغيرة.

“كنت أكره السلالم”، تقول وهي تبتسم بعد أن تغيّر حالها، “حتى التسوق أو زيارة ابنتي أصبح مرهقًا”.

لكن كل شيء بدأ يتبدّل عندما سمعت من صديقة عن برنامج مجاني للتمارين الرياضية يستهدف من يعانون من آلام المفاصل والظهر والركب.

لم تكن تتوقع الكثير، لكنها قررت أن تحاول. بعد 12 أسبوعًا فقط، تغيّر شيء عميق في جسدها ونفسها.

دراسة ضخمة.. وآثار مذهلة

تجربة ليندا ليست حالة فردية. إنها واحدة من 40 ألف شخص في منطقة مانشستر الكبرى ببريطانيا شاركوا في برنامج بحثي مشترك بين Nuffield Health (وهي مؤسسة صحية غير ربحية)، وجامعة مانشستر متروبوليتان، ومؤسسة Frontier Economics.

هدف البرنامج بسيط في مظهره، عميق في أثره: ممارسة ساعتين من التمارين أسبوعيًا، موزعتين على جلستين بقيادة مختصين في إعادة التأهيل، لمدة 12 أسبوعًا.

المشاركون الذين التزموا بالبرنامج شعروا بانخفاض متوسط في الألم بنسبة 35%. كما قلّت زياراتهم للأطباء العامين بنسبة 29%، وقلّت أيام غيابهم عن العمل إلى النصف تقريبًا، بل احتاجوا إلى مساعدة أقل من عائلاتهم بنسبة 21%.

“لو كانت الحركة دواءً…”

تقول الدكتورة دافينا دينيسيتشك، المديرة الطبية لمؤسسة Nuffield Health:

“التمرين المنظَّم والموجَّه هو أحد أكثر العلاجات فعالية للأشخاص المصابين بأمراض مزمنة. لو كانت الحركة دواءً، لكانت أقوى عقار على وجه الأرض، ومع ذلك لا تُستخدم كما يجب في أنظمتنا الصحية”.

وتضيف أن دمج النشاط البدني الموجّه داخل منظومة العلاج الطبي يمكن أن يغيّر حياة ملايين البريطانيين المصابين بآلام المفاصل أو العمود الفقري أو الركب.

34 مليار جنيه إسترليني.. فوائد تتعدى الأفراد

الأثر لم يكن صحيًا فحسب، بل اقتصاديًا أيضًا.

فالباحثون قدّروا أن لو مارس 3.7 مليون بريطاني ممن يعانون من آلام المفاصل، لكن دون خطة علاجية، ساعتين من التمارين أسبوعيًا، فإن الفوائد الاقتصادية والاجتماعية قد تصل إلى 34 مليار جنيه إسترليني.

التحليل أوضح أن انتشار هذا النوع من البرامج على مستوى بريطانيا بأكملها سيحقق:

18 مليار جنيه إسترليني من الفوائد الصحية المباشرة (تحسّن نوعية الحياة، تقليل الألم، زيادة النشاط).

13 مليار جنيه إسترليني من المنافع للأسر ومقدمي الرعاية.

3 مليارات جنيه إسترليني مكاسب اقتصادية ناتجة عن تقليل الإجازات المرضية وزيادة الإنتاجية.

230 مليون جنيه إسترليني في صورة وفورات مباشرة في ميزانية هيئة الخدمات الصحية (NHS).

أرقام تروي قصصًا إنسانية

خلال 12 أسبوعًا فقط، ارتفعت جودة الحياة الصحية للمشاركين بنسبة 13%، وهو تحسّن قيّم قُدّر ماديًا بـ 6680 جنيه إسترليني لكل فرد.

كما أن انخفاض أيام الغياب عن العمل وفّر نحو 501 جنيه إسترليني إضافية لكل شخص. والأجمل، أن تحسّن الرضا عن الحياة داخل أسرهم قُدّر بنحو 4765 جنيه إسترليني.

مدير في مؤسسة Frontier Economics يُدعى نيك وولي علّق على ذلك قائلًا:

“في بداية البرنامج، كان ربع المشاركين غير قادرين على العمل بسبب الألم. بعد 12 أسبوعًا، أصبح تقريبًا واحد من كل عشرة منهم قادرًا على العودة إلى عمله”.

أما البروفيسور تيم كابل، مدير معهد الرياضة في جامعة مانشستر متروبوليتان، فيرى أن هذه النتائج تقدم “خريطة طريق وطنية”، قائلاً:

“لقد أثبتت هذه التجربة الدور التحويلي للحركة في حياة 25 مليون بريطاني يعانون من أمراض مزمنة. إنها دليل حي على أن التمارين ليست ترفًا، بل علاج حقيقي”.

دعوة لتغيير السياسات الصحية

الباحثون دعوا هيئة الخدمات الصحية البريطانية (NHS) إلى إدراج برامج التمارين المنظمة ضمن توصياتها العلاجية الرسمية، وتشجيع الأطباء والمستشفيات على إحالة المرضى المؤهلين إليها.

يقول التقرير إنّ “الدمج المنهجي للنشاط البدني ضمن خطط العلاج يمكن أن يقلل الاعتماد على الأدوية، ويُحسّن الصحة العامة بدرجة لا يمكن لأي عقار تحقيقها”.

رغم الأرقام المبهرة، هناك من يرى الصورة بشكل أكثر واقعية.

تقول ديبورا ألسينا، المديرة التنفيذية لجمعية “فيرسَس أرترايتِس” (Versus Arthritis):

“صحيح أن التمارين تُحسّن نوعية حياة المصابين بالتهاب المفاصل، لكنها ليست حلًا سحريًا كما يبدو في هذه الدراسة. كثير من المرضى يواجهون صعوبات حقيقية في ممارسة الرياضة بانتظام، إما بسبب الألم أو ضيق الوقت أو عدم توفر الدعم الكافي من نظام الرعاية الصحية”.

وأضافت أن التأخير في التشخيص، ونقص خيارات العلاج المناسبة، ما زالا مشكلتين كبيرتين تواجهان المرضى في بريطانيا.

تجارب أخرى تؤكد الفكرة

لم تكن تجربة Nuffield هي الوحيدة من نوعها.

بعض مستشفيات هيئة الخدمات الصحية في إنجلترا تُشرف على برنامج آخر يُعرف باسم Escape Pain، وهو مزيج من التثقيف والتمارين وإدارة الألم ذاتيًا على مدار ستة أسابيع، وقد شارك فيه 15 ألف شخص حتى الآن.

النتائج كانت مشابهة: تحسن ملحوظ في نوعية الحياة، وتوفير وقت ومال على النظام الصحي.

وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية في بريطانيا علّقت على هذه النتائج ببيان قالت فيه:

“ندرك أن الألم المزمن يؤثر بشدة في جودة الحياة، ولذلك نسعى لتحويل منظومة الصحة من علاج المرض إلى الوقاية منه، حتى نُبقي الناس أصحّاء ومستقلين لفترة أطول.”

وأضاف المتحدث باسم الوزارة أن الخطة الصحية لعشر سنوات تستهدف توسيع استخدام التكنولوجيا القابلة للارتداء لمراقبة النشاط البدني وتشجيع الحركة، خاصة في المناطق الأكثر فقرًا.

بكلمات أخرى، قد تصبح ساعة اللياقة التي تراقب خطواتك جزءًا رسميًا من خطة العلاج المستقبلية.

بين الألم والأمل

بالعودة إلى ليندا، بطلتنا في بداية القصة، تقول وهي تلمع عيناها:

“الفرق بيني قبل وبعد البرنامج لا يوصف. الألم ما زال موجودًا أحيانًا، لكنه لم يعد يسيطر على حياتي. أصبحت أتحرك بحرية، وأضحك أكثر. لا أصدق أن كل ما احتجته هو ساعتان من التمارين أسبوعيًا”.

قصة ليندا تختصر جوهر الرسالة التي يحاول العلماء إيصالها: الحركة ليست رفاهية. إنها دواء بلا ثمن تقريبًا، دواء يمكن أن يغيّر حياة ملايين البشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى