حياة

كيف عاشت حتى 117 عامًا؟ حكاية امرأة حيرت العلماء

في أحد أيام أغسطس الهادئة عام 2024، أغمضت ماريا برانياس موريرا عينيها للمرة الأخيرة في دار لرعاية المسنين ببلدة صغيرة في كتالونيا الإسبانية.

كانت في السابعة عشرة بعد المئة، ما زالت تقرأ وتضحك وتتناول زباديها المفضل كل صباح. لم تكن مشهورة، ولا ثرية، ولا تمتلك سرًّا خارقًا للشباب الأبدي، لكنها كانت أطول من عاش على وجه الأرض آنذاك.

ومع رحيلها، لم يكن السؤال كيف ماتت، بل كيف عاشت كل هذه السنوات وهي بصحة وعقل متقدين.

حياة بسيطة.. وعمر استثنائي

ولدت ماريا في سان فرانسيسكو عام 1907، وانتقلت إلى كتالونيا مع أسرتها وهي في الثامنة من عمرها. عاشت حياة عادية: تزوجت، أنجبت، ربت أبناءها، ثم صارت جدة وربما جدة لجدة.

كانت تحب البستنة والمشي والقراءة والعزف على البيانو، وتجد سعادتها في الأشياء الصغيرة. لم تعرف المبالغة في شيء، لا في الطعام ولا في العادات.

ورغم بساطة حياتها، كانت حالة نادرة علميًا؛ فبينما يبلغ متوسط عمر النساء في كتالونيا نحو 86 عامًا، تخطّت هي هذا الرقم بـ31 عامًا كاملة.

هذا التناقض بين بساطة الحياة وطول العمر جذب انتباه العلماء. كيف يمكن لامرأة عادية، لم تتبع نظامًا طبيًا صارمًا، ولم تعش في ظروف مثالية، أن تصل إلى 117 عامًا وهي في صحة معقولة؟

السؤال لم يكن مجرد فضول، بل نافذة لفهم سرّ الشيخوخة وربما تأخيرها.

الباحثون يدخلون على الخط

العالم الإسباني مانيل إستيلر، رئيس قسم الوراثة في كلية طب جامعة برشلونة، قرر مع فريقه أن يحاولوا فك هذا اللغز.

استأذنوا ماريا، التي كانت وقتها في السادسة عشرة بعد المئة، لإجراء سلسلة من الفحوص والدراسات عليها، فوافقت بابتسامة. كانت تدرك أن حياتها الطويلة قد تساعد الآخرين.

جمع الفريق عينات من دمها وبولها ولعابها وبرازها، وسجّلوا تفاصيل عن غذائها ونومها وصحتها، وحتى حالتها النفسية.

ثم قارنوا نتائجها ببيانات أشخاص من أعمار مختلفة، من الشباب إلى المسنين.

النتائج التي ظهرت لاحقًا ونُشرت في مجلة Cell Reports Medicine كانت مدهشة بحق.

ربحت “يانصيب الجينات”

أول ما لاحظه العلماء أن ماريا كانت تملك تركيبة جينية استثنائية.

قال إستيلر: “لقد فازت في اليانصيب الجيني”.

حمل جسدها عددًا كبيرًا من الطفرات المفيدة المرتبطة بطول العمر، مثل الجينات المسؤولة عن إصلاح الحمض النووي ومكافحة الالتهابات وتجديد الميتوكوندريا (محطات طاقة الخلايا).

الأهم من ذلك، أنها لم تحمل أيًّا من الجينات الخطرة المرتبطة بالأمراض المزمنة مثل السرطان والزهايمر والسكري.

لم تُصب ماريا بأي من هذه الأمراض، وكان أكبر شكواها في السنوات الأخيرة هو التهاب المفاصل.

لكن المفاجأة أن هذه الجينات لم تكن موجودة بنفس النسبة في عائلتها.

فأبناؤها وأقاربها عاشوا أعمارًا عادية تمامًا. وهذا يعني أن الوراثة وحدها لا تفسر المعجزة.

جهاز مناعة “ذكي”

عندما فحص الباحثون جهازها المناعي، وجدوه في حالة مدهشة.

معظم الناس، حين يتقدمون في العمر، يضعف جهازهم المناعي ويصبح أقل قدرة على مقاومة العدوى. لكن جهاز ماريا ظلّ نشطًا وفعّالًا.

امتلكت كمية كبيرة من خلايا الـT المعروفة بذاكرتها المناعية، أي تلك التي تتذكر الفيروسات والبكتيريا التي هاجمت الجسم من قبل.

كانت خلاياها تتعامل مع التهديدات بحكمة: قوية بما يكفي لمواجهة العدوى، لكن دون أن تهاجم خلايا الجسم نفسه، كما يحدث في أمراض المناعة الذاتية.

وقد تكون إصابتها بـ فيروس كورونا في عمر 113 عامًا، ونجاتها منه دون مضاعفات، خير دليل على كفاءة هذا النظام الدفاعي الفريد.

سر في الأمعاء

حين نظر العلماء إلى بكتيريا أمعائها، وجدوا هناك ما قد يفسر بعضًا من السر.

كان جهازها الهضمي يعجّ بأنواع من البكتيريا المفيدة التي تفرز مواد تقلل الالتهابات وتدعم جهاز المناعة.

هذا التوازن المدهش في الميكروبيوم لم يكن من فراغ؛ فقد كانت ماريا عاشقة للزبادي -وكانت تتناول ثلاث عبوات يوميًا في السنوات الأخيرة من حياتها، إضافة إلى نظام غذائي متوسطي خفيف يعتمد على السمك، وزيت الزيتون، والفواكه، والخضروات الطازجة.

عمر بيولوجي أصغر بـ23 عامًا

أجرى الباحثون اختبارًا لقياس ما يُعرف بـ”العمر البيولوجي” وهو مقياس لحالة الجسم الفعلية مقارنة بالعمر الزمني.

النتيجة كانت مذهلة: جسد ماريا كان أصغر من عمرها الحقيقي بـ23 عامًا.

بمعنى آخر، وهي في الـ116 من عمرها، كان جسدها يعمل كما لو كانت امرأة في الثالثة والتسعين فقط.

ورغم هذه المؤشرات المبهرة، لم تكن ماريا خارقة أو خالية من العلل.

كانت تعاني من آلام المفاصل، وبعض مؤشرات الدم التي قد تدل على بداية اضطرابات في خلايا الدم أو احتمالات خفيفة للخرف.

لكن هذه العلامات لم تتطور إلى أمراض حقيقية قبل وفاتها.

يقول إستيلر: “لقد كبرت، لكنها لم تمرض”.

تلك الجملة تلخص جوهر ما يجعل قصتها مختلفة: الشيخوخة ليست بالضرورة مرضًا.

ما الذي يمكن أن نتعلمه منها؟

قد يتساءل البعض: هل يمكن تكرار تجربة ماريا؟ هل يمكن لأي شخص أن يعيش مثلها؟

العلماء لا يعدوننا بعمر مماثل، لكنهم يرون في قصتها دروسًا يمكن الاستفادة منها.

أولها أن الجينات مهمة لكنها ليست كل شيء. فحتى من لم يربح “يانصيب الجينات” يمكنه تحسين فرصه عبر نمط حياة متوازن.

ماريا لم تتبع حميات صارمة، لكنها أكلت بذكاء، وتناولت أطعمة طبيعية في كميات صغيرة.

تحركت كثيرًا، ونامت جيدًا، وحافظت على تواصلها الاجتماعي مع من حولها.

كانت تؤمن بأن “الضحك نصف العلاج”، وتحرص على أن تبدأ يومها بابتسامة.

ثانيها، أن الصحة النفسية والاجتماعية تلعب دورًا لا يقل أهمية عن الجسد.

ماريا ظلت تشارك سكان دار المسنين في أحاديثهم، تستقبل الزوار وتغني أحيانًا، وتجد متعة في أبسط التفاصيل.

هذا التواصل بحسب علماء الشيخوخة قد يكون أحد أقوى العوامل التي تطيل العمر وتقلل معدلات الاكتئاب والأمراض.

رغم ضخامة الدراسة التي أجريت على ماريا، يعترف العلماء بأن الأمر لا يزال في بدايته.

فهي حالة واحدة، لا يمكن تعميم نتائجها على الجميع.

لكنها تفتح الباب أمام أبحاث أعمق حول كيفية فصل الشيخوخة عن المرض.

يقول إستيلر: “ربما لن نعيش جميعًا 117 عامًا، لكننا نستطيع أن نعيش أطول فترة ممكنة من دون أمراض خطيرة، وهذا بحد ذاته إنجاز”.

اليوم، وبعد عام من رحيلها، ما زال اسم ماريا برانياس موريرا يتردد في الأوساط العلمية كرمز للأمل.

فقد أثبتت أن التقدم في العمر لا يعني بالضرورة التدهور، وأن سرّ الحياة الطويلة قد يكون مزيجًا بسيطًا من الحظ، والوراثة، والتوازن، والرضا.

كانت تقول دائمًا: “الحياة ليست سباقًا، لكنها رحلة طويلة تستحق أن نعيشها بهدوء”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى