أوتو

تحول مفاجئ.. الصين تستبعد السيارات الكهربائية من خطتها الخمسية

في خطوة أثارت دهشة المراقبين داخل الصين وخارجها، قررت بكين استبعاد السيارات الكهربائية من قائمتها الرسمية للصناعات الاستراتيجية في الخطة الخمسية الجديدة (2026- 2030)، لتكون المرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمان التي تغيب فيها المركبات الكهربائية عن جدول أولويات الدولة الاقتصادية.

هذا التحول المفاجئ، الذي كشفته وكالة الأنباء الصينية الرسمية شينخوا، يأتي في وقتٍ يعيش فيه قطاع السيارات الكهربائية الصيني واحدة من أكثر فتراته اضطرابًا، وسط موجة من فائض الإنتاج والمنافسة الشرسة التي بدأت تلتهم أرباح الشركات الكبرى وتضغط على السوق المحلي إلى حدود غير مسبوقة.

من الصدارة إلى الظل

منذ عام 2009، كانت الصين تتعامل مع المركبات الكهربائية باعتبارها “صناعة المستقبل”.

أطلقت مبادرات ضخمة، وقدمت مليارات الدولارات في صورة دعمٍ حكومي مباشر وغير مباشر، لتصبح اليوم أكبر سوق للسيارات الكهربائية في العالم، وأضخم قاعدة صناعية متكاملة تمتد من بطاريات الليثيوم إلى محطات الشحن الذكية.

لكن يبدو أن بكين ترى اليوم مشهدًا مختلفًا. فخلال العقد الماضي، تضخمت الصناعة إلى حد الإشباع.

مئات العلامات التجارية ظهرت، من عمالقة مثل BYD وNIO، إلى عشرات الشركات المحلية الصغيرة التي تسعى إلى قطعة من الكعكة.

ومع مرور الوقت، تحوّل النجاح الكمي إلى عبء نوعي، ومعه بدأت الدولة تراجع أولوياتها.

وفي الخطة الخمسية الجديدة، التي تُعد بمثابة خريطة طريق للاقتصاد الوطني خلال النصف الثاني من العقد، غابت عبارة “السيارات الجديدة للطاقة” تمامًا عن قائمة الصناعات الاستراتيجية.

وبدلًا من ذلك، وُضعت تقنيات أخرى على رأس الأولويات مثل الذكاء الكمي، والتصنيع الحيوي، وطاقة الهيدروجين، والاندماج النووي، باعتبارها مجالات النمو الجديدة التي تراهن عليها بكين لدفع الاقتصاد نحو مرحلة مختلفة من التطور.

إشارات من القمة

لم يكن القرار وليد لحظة، بل سبقه نقاش داخلي عميق حول جدوى استمرار الدعم المكثف لهذا القطاع.

الرئيس شي جين بينغ نفسه ألمح في أكثر من مناسبة إلى ضرورة تجنب “الاندفاع الأعمى نحو الصناعات الجديدة”، مشددًا على أن التنمية الاقتصادية يجب أن تكون “عقلانية وواقعية”، لا قائمة على الحماس وحده.

وفي تصريحات نشرتها شينخوا بالتزامن مع إعلان الخطة، قال شي إن الهدف هو “توجيه جميع الأطراف إلى تبنّي نهجٍ متوازن وعدم التسرّع في القفز نحو مبادرات جديدة دون دراسة”.

وهو تلميح واضح إلى ما تعتبره القيادة المركزية “حمى الاستثمار المفرطة” في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الفائقة، والسيارات الكهربائية، حيث باتت كل مقاطعة تقريبًا تتسابق لبناء مصانع ومراكز تطوير خاصة بها، بغض النظر عن الطلب الفعلي في السوق.

سوق متخم ومنافسة قاتلة

منذ انطلاق الحملة الوطنية لدعم السيارات الكهربائية قبل أكثر من 15 عامًا، تحوّلت مدن لم تكن تُعرف بأي صلة بصناعة السيارات إلى مراكز إنتاج متقدمة.

مدن مثل خفي وشيآن باتت تنافس مدنًا تقليدية مثل شنغهاي وغوانغتشو في حجم التصنيع والتصدير.

لكن هذا التوسع السريع خلق معضلة جديدة، سوق محلي مشبع، ومنافسة دامية على الأسعار.

في عام 2024، اشتعلت حرب الأسعار بين الشركات الكبرى بعد أن قررت تسلا تخفيض أسعارها بشكل حاد في السوق الصيني، ما دفع لاعبين محليين إلى الرد بتخفيضات مماثلة.

ومع تراجع الأرباح وارتفاع التكاليف، وجدت عشرات الشركات الصغيرة نفسها غير قادرة على الاستمرار.

أضف إلى ذلك أن الضغوط التضخمية والركود الذي يضرب قطاعات أخرى من الاقتصاد الصيني جعلا المستهلك أكثر حذرًا.

وفي الوقت نفسه، بدأت الأسواق الخارجية تُغلق تدريجيًا أمام السيارات الصينية بفعل التوترات التجارية المتزايدة مع الغرب، خاصة الاتحاد الأوروبي الذي يدرس فرض رسوم إغراق على الواردات الصينية من المركبات الكهربائية.

من الحلم الصناعي إلى مراجعة الحسابات

الاستبعاد من الخطة الخمسية لا يعني أن الصين تخلّت تمامًا عن صناعة السيارات الكهربائية، لكنها تشير إلى تغيير في زاوية النظر إليها.

فبعد أن تحققت الأهداف الكبرى، وهي بناء صناعة متكاملة وقيادة السوق العالمية، ربما ترى بكين الآن أن الوقت حان لتخفيف الدعم الحكومي المباشر وترك السوق ليوازن نفسه.

فقد أدى التدخل المكثف خلال السنوات الماضية إلى تضخّم غير طبيعي في عدد الشركات، وأوجد منافسة غير صحية أحيانًا.

كما أن وفرة الإنتاج فاقت حجم الطلب الفعلي، ما جعل العديد من المصانع تعمل بأقل من طاقتها.

في المقابل، يبدو أن الحكومة تريد توجيه مواردها نحو مجالات أخرى تعتبرها أكثر استراتيجية للمستقبل البعيد، الطاقة النظيفة الجديدة مثل الهيدروجين، والتقنيات المتقدمة مثل الحوسبة الكمية والاندماج النووي، وهي مجالات يمكن أن تمنح الصين تفوقًا علميًا وصناعيًا حقيقيًا في العقود المقبلة.

خلفيات سياسية واقتصادية

يأتي هذا التحول في لحظة حساسة. فالصين، رغم نجاحها الصناعي الكبير، تواجه الآن تباطؤًا اقتصاديًا واضحًا وتحديات في سوق العقارات والتجارة الخارجية.

ولذلك، فإن اختيار القطاعات التي ستحظى بالأولوية في الخطة الخمسية لم يعد قرارًا فنيًا فحسب، بل سياسيًا بامتياز.

فالدولة التي طالما رأت في السيارات الكهربائية رمزًا للتقدم الصناعي والبيئي، صارت الآن تنظر إليها كمثال على “الإفراط في النمو” الذي يحتاج إلى ضبط.

وفي الوقت نفسه، تسعى الحكومة إلى تحفيز الاستهلاك المحلي بطرق أخرى، إذ دعت الخطة إلى إزالة القيود على شراء السيارات والمساكن، في محاولة لإنعاش الطلب الداخلي.

قراءة في الموقف

من منظور اقتصادي، قد تبدو الخطوة واقعية. فبعد مرحلة البناء والتوسع، تحتاج أي صناعة إلى فاصل من “التنظيف الذاتي” حتى تستعيد توازنها.

لكن من منظور رمزي، فإن غياب السيارات الكهربائية عن خطة التنمية الوطنية يبعث برسالة أوسع، أن الصين تُعيد تعريف مفهوم “الصناعة الاستراتيجية”.

التحول لا يعني التراجع بقدر ما يعكس رغبة في إعادة ترتيب الأولويات وفقًا لمعادلة جديدة ليس المهم فقط من يملك أكبر عدد من المصانع، بل من يستطيع أن ينتج التقنية التالية التي ستغيّر العالم.

نحو مرحلة جديدة

مع كل ذلك، لا أحد يتوقع أن تختفي السيارات الكهربائية من المشهد الصيني قريبًا. فهي ما زالت قطاعًا ضخمًا يشغّل ملايين العمال، وتستثمر فيه الشركات الكبرى على نطاق واسع.

لكن الواضح أن بكين لم تعد تنظر إلى هذا القطاع باعتباره محرّك النمو الأول، بل جزءًا من مشهد اقتصادي أكبر، أكثر تنوعًا وواقعية.

وبينما ينتظر العالم النسخة الكاملة من الخطة الخمسية الجديدة التي ستُعرض في اجتماع البرلمان الصيني في مارس المقبل، تبقى الإشارة الأهم واضحة، الصين لم تعد تركض خلف الحلم الكهربائي وحده، بل بدأت تبحث عن “الشرارة” التالية التي ستقودها إلى مستقبل ما بعد الكهرباء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى