الروبوتات تحتل وظائف البشر في الاتصالات

أصبح عاديًا في 2025 أن تجري اتصالًا بخدمة عملاء شركة ما، مثلًا فودافون فيرد عليك روبوتًا ويجري معك المحادثة بدلًا من أحد ممثلي خدمة العملاء.
الأمر الآن يذهب إلى أبعد من ذلك، ففي ردهات مكاتب شركات ناشئة بمدينة هندية لا تُعرف كثيرًا بين الجمهور العادي، يعمل فريق من المبرمجين والمختصين في الذكاء الاصطناعي على ضبط روبوتات محادثة تتكلم كالبشر.
تلك الروبوتات تُرسل أيضًا رسائل تفاعلية، وتدير شكاوى ومراسلات العملاء بصيغة شبه بشرية.
هذه الشركة، التي تُدعَى LimeChat، تحمل هدفًا يبدو للوهلة الأولى منمّقًا وغير واقعي: أن تجعل وظائف خدمة العملاء “شيئًا من الماضي”. تدّعي الشركة أن وكلاء الذكاء الاصطناعي التوليدي الذين طوّرتهم يمكنهم أن يقلّصوا عدد الموظفين اللازمين للتعامل مع 10 آلاف استفسار شهريًا بنسبة تصل إلى 80%، حسب رويترز.
“بمجرد أن توظف وكيلًا من LimeChat، لن تحتاج للتوظيف ثانية”، قالها مؤسّسها، نِخِل غوبتا، وابتسامة لا تخلو من التحدي.
لكن خلف هذه العبارات التسويقية، تكمن قصة تُشبه صراع العمالة في عصر أتمتة متسارعة، بين مصالح الشركات في خفض التكاليف وبين مخاوف ملايين العاملين الذين قد يُستبدلون بصمت.
لمحة عن الواقع: الهند تُعيد تشكيل الوظائف
لطالما كانت الهند مركزًا عالميًا لـ”المكاتب الخلفية” (Back Office) وخدمات التعهيد، مدفوعة بمزايا عدة؛ كثافة قوية للكوادر الشابة، مستوى جيد في اللغة الإنجليزية، وتكاليف تشغيل منخفضة نسبيًا مقارنةً بالدول الغربية.
لكن المشهد الجديد يقول شيئًا مختلفًا، إن الذكاء الاصطناعي على وشك أن يُعيد رسم خريطة الوظائف من الصفر.
في سوق تبلغ قيمته نحو 283 مليار دولار في قطاع التقنية بوجه عام، تتدخل أدوات الذكاء الاصطناعي لتمتد إلى خدمات العملاء والدعم الفني وإدارة البيانات.
وهي المجالات التي يعتمد عليها قطاع خدمات التعهيد بدرجة كبيرة.
حسب بيانات من شركة TeamLease Digital، فإن قطاع إدارة العمليات، الذي يشمل مراكز الاتصال والرواتب والتعامل مع البيانات، يوظف حوالي 1.65 مليون شخص في الهند.
لكن النمو الفعلي في الأيدي العاملة بات يكاد يكون شبه معدوم مقارنة بما كان عليه قبل سنوات.
في العامين الماضيين، نما عدد العاملين الصافي بأقل من 17 ألف وظيفة سنويًا، بينما في سنوات سابقة كان الارتفاع يصل إلى أكثر من 100 ألف وظيفة سنويًا.
يُعزى الانخفاض إلى دمج الأتمتة والذكاء الاصطناعي في العمليات، واستخدام أدوات ذكية تقترح ردودًا على المكالمات، أو تتولى بشكل شبه مستقل الاستفسارات البسيطة.
حتى بعض الموظفين الذين كانوا يعتمدون على الذكاء الاصطناعي كمساعد، وجدوا أنفسهم تدريجيًا أمام شُبهة الاستغناء.
قصص مثل قصة “ميغا. س”، التي تقول إنها أُقيلت من وظيفتها بسبب انتقال شركتها إلى استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لمراقبة المكالمات، ليست حالات شاذة.
بل ربما هي تنذر بمرحلة انتشار واسعة لهذا النوع من الاستغناء في الأسابيع والأشهر المقبلة.
كيف تعمل روبوتات المحادثة المتقدمة؟
لفهم التأثير، لا بد أولًا من تبسيط كيفية عمل هذه “الوكالات الذكية”.
نماذج لغوية ضخمة: تعتمد هذه الوكالات على نماذج لغوية كبيرة (Large Language Models) قادرة على توليد نصوص مترابطة تتعامل مع السياق، تجيب على الأسئلة، وتُتابع الحوارات.
تحليل السياق والنوايا: من خلال تحليل الرسائل أو الكلام، تحدد النية التي يسعي العميل لتحقيقها (مثل استفسار عن حالة طلب، شكوى، إرجاع منتج، اقتراح منتج بديل).
توليد الردود: تُعد ردودًا مناسبة، غالبًا بالاعتماد على بيانات تدريب مسبقة أو قواعد معرفة داخل الشركة (knowledge base).
التكامل مع الأنظمة الخلفية: تتصل الأنظمة بقاعدة بيانات الطلبات أو نظام الشحن أو الحسابات، لتُكمِل الطلب أو تتحقّق من حالة المنتج أو ترسل إشعارًا إلى العميل.
آلية التحويل إلى إنسان: في الحالات المعقدة أو عندما يكشف الروبوت عن شك أو غموض أو غضب من العميل، يتحوّل الحوار تلقائيًا إلى موظف بشري ليكمل الحل.
وبهذه الطريقة، يمكن للروبوتات أن تتولى 60–90% من الاستفسارات الروتينية، وتبقي للبشر فقط الحالات الصعبة أو الشاذة.
وفي حالة LimeChat، يدّعي غوبتا أن شركته تُعالِج حوالي 70% من شكاوى العملاء حاليًا، وأنها تطمح للوصول إلى 90–95% قريبًا.
دوافع الشركات: من يخسر ومن يكسب؟
من وجهة نظر الشركات، الحافز واضح، خفض التكاليف التشغيلية بدلاً من دفع رواتب لمئات من موظفي خدمة العملاء، يمكن الاعتماد على روبوت مقابل تكلفة محدّدة ثابتة.
إضافة إلى التوسّع بسهولة، إذ يلزم الموظف البشري دورة توظيف وتدريب، فيما الروبوتات قادرة على الانطلاق الفوري مع القدرة على التوسع بشكل ضخم دون تعقيدات كبيرة.
فضلًا عن الاتساق في الأداء، فالروبوت لا يمرض، لا يتأخر، لا يتشتّت، الجواب متسق دائمًا.
ويمكن لنظام الذكاء الاصطناعي أن يُحلل المحادثات تلقائيًا، يعيد تسليط الضوء على نقاط ضعف في المنتج أو في الخدمة، ويقترح تحسينات مستمرة.
لكن ليس كل شيء ورديًا، كثيرون من المستهلكين بعد تجربة الروبوتات يشعرون بأنها باردة أو غير مرنة، ويفضلون التحدث إلى بشر عند وجود مشاعر، كالتذمّر أو الغضب أو الحاجة إلى تفهم.
وفي أسئلة معقدة أو حالات غير معتادة، يمكن للروبوت أن يخطئ أو يصمت، مدعيًا “لا أملك معلومات كافية” كما حصل في بعض التجارب.
كما أن تصميم روبوت جيد ليس بالمهمة السهلة؛ يتطلب فريقًا من المطورين والمهندسين، تحديثات مستمرة، مراقبة الأداء، وتصحيح الأخطاء.
وقد يقاوم الموظفون الامتثال للأنظمة الجديدة أو يشعرون بالقلق على مستقبلهم، مما يؤثر على معنويات الفريق.
في الواقع، بعض الشركات مثل Klarna في السويد بدأت تعيد التفكير في توجهاتها، مفضلة الاستخدام المتوازن للتكنولوجيا للحفاظ على قنوات بشرية في الحالات التي تتطلب ذلك، بدل الاقتصار على خفض التكاليف.
الهند أمام مفترق طرق
الهند، بدورها، تراهن على أن هذا التحوّل لن يكون نهاية الوظائف، بل إعادة تشكيل لها.
رئيس الوزراء مودي يقول إن “العمل لا يختفي بسبب التكنولوجيا، إن طبيعة العمل تتغير، وتُخلق أنواع جديدة من الوظائف”.
وهذا الرهان ليس بلا أساس، فمع انتشار الذكاء الاصطناعي سيزداد الطلب على مهندسي الذكاء الاصطناعي، مختصي الأتمتة، محللي البيانات، مراقبي النماذج، ومهندسي البنية التحتية السحابية.
وفي أحياء مثل أميربيت في حيدر أباد، التي كانت تُعلّم برامج مثل جافا ومايكروسوفت أوفيس، بدأت مراكز التعليم تتحوّل تدريجيًا إلى دورات في تعلم الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، وهندسة الأوامر (Prompt Engineering).
إحد المراكز تعرض دورة مدتها تسعة أشهر في الذكاء الاصطناعي مقابل مبلغ يقارب 1,360 دولارًا، أكثر من الضعف مقارنة بدورات التكنولوجيا التقليدية.
لكن التحدي كبير أيضًا، ليس كل خريج علوم الحاسوب أو تكنولوجيا المعلومات مستعدًا للعمل في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يتطلب خلفية في الرياضيات، الإحصاء، التعلم الآلي، وفهم عميق للبنى المعرفية.
وقد تستغرق أعوامًا قبل أن يتعلم العاملون المهارات الجديدة ويُعاد توظيفهم في مجالات الذكاء الاصطناعي.
كما أن أولئك الذين كانوا يعتمدون على وظائف بسيطة في مراكز الاتصال قد لا يكون لديهم الإمكانية أو الموارد للتعلّم وإعادة التأهيل بسهولة، مما قد يفاقم التباين الاجتماعي.
وكثير من الخبراء يطالبون الحكومة بتقوية شبكات الأمان الاجتماعي “إعانات البطالة، برامج إعادة التأهيل، والتحويل المهني”، خاصة أن التحوّل قد يترك فئة من العمال في أزمة مؤقتة.
في هذا السياق، يرى بعض المختصين أن الهند تحتاج إلى “خطة واضحة” لتحويل هذا التحدّي إلى فرصة، بدل أن تتحول إلى مكان تُستبدَل فيه الأيدي العاملة البشرية بأكملها دون استعداد كافٍ.
ماذا نفتح الباب له في العالم العربي؟
قد يتساءل القارئ العربي، ما علاقة هذا بجغرافيتي أو واقعي المهني أو سوق عملي؟ الجواب: أكثر مما قد نظن.
في المنطقة العربية والدول النامية بشكل عام، هناك فرص مرتفعة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في خدمة الدعم، التجارة الإلكترونية، الاتصالات، والمؤسسات الحكومية.
لكن التحدّيات هنا تتبلور في البنية التحتية اللغوية، فاللغة العربية بمختلف لهجاتها تُشكّل تحديًا كبيرًا أمام نماذج المحادثة الذكية، ولا تزال تحتاج تدريبًا دقيقًا ومخصصًا.
إضافة إلى أن الشركات قد تجد صعوبة في تحمل تكلفة التطوير أو الشراكة مع منصّات أجنبية.
وبعض المؤسسات ما زالت تفضّل العنصر البشري كجزء من سمعة الخدمة أو التفاعل العاطفي مع العملاء.
ويجب أن تُواكب المؤسسات مبادرات إعادة تأهيل الموظفين، وتدريبهم على مهارات الذكاء الاصطناعي أو الأتمتة، بدلًا من الاستغناء الفوري.
إذا تم تبنّي الذكاء الاصطناعي بحِسّ ممكن، فإن الدول العربية قد تستفيد في رفع جودة الخدمة، خفض التكاليف، وتحسين سرعة الاستجابة.
لكن إذا تم الاعتماد الكامل دون استراتيجية، فقد يُسلَك طريق تقلّص أعداد الموظفين في قطاعات واسعة من الدعم، مع ما يترتب على ذلك من ضغط اجتماعي.



